بقلم قداسة البطريرك مار إغناطيوس زكا الأول عيواص
عندما نتناول موضوعاً كهذا بالدرس ننطلق من كون كنيستنا السريانية الأرثوذكسية هي كنيسة رسولية تقليدية عريقة، فنستند ببحثنا إلى الكتاب المقدس وتقليد الكنيسة الذي هو تعاليم الرسل التي لم تدون في أسفار الكتاب المقدس، وقرارات المجامع المسكونية والعامة والمكانية والممارسات الطقسية وتعاليم ملافنة الكنيسة القديسين، وهذه كلها تسلمها الخلف من السلف. فالكنيسة السريانية باستنادها إلى الكتاب المقدس ترى أن المرأة مساوية للرجل إنْ في الحقوق أو الواجبات. ذلك أنّ الله خلق الإنسان، ذكراً وأنثى كما يقول الكتاب المقدس، وخلقه على صورته كمثاله، ولذلك فالمرأة والرجل متساويان لأن الله تعالى لم يخلق أكثر من امرأة واحدة للرجل الواحد كما لم يخلق أكثر من رجل واحد للمرأة الواحدة، وعن اتحادهما في الزواج يقول الكتاب المقدس: «ويكونان كلاهما جسداً واحداً» (تك 2: 24 ومت 19: 5 ومر 10: 8 وأف 5: 31). هذا هو الإنسان ـ آدم ـ الذي أخذ الله منه ضلعاً وخلق له حواء معيناً «فقال آدم هذه الآن عظمٌ من عظامي ولحم من لحمي، هذه تدعى امرأة لأنها من امرئٍ أخذت» (تك 2: 23) وقد خلقا معاً على صورة الله كمثاله، وصورة الله هي الروح التي أعطاها الله للإنسان عندما نفخ في أنفه نسمة الحياة فصار آدم نفساً حيّة، فالروح الحية باتحادها بالجسد الترابي أعطته حياة، وصورة الله في الإنسان هي أيضاً العقل والضمير وقوة الاختراع والسيادة على بقية المخلوقات، وهذه القوة وهبها الله للإنسان عندما خلقه الله قديساً على شبهه تعالى الذي هو قدوس وسلّطه تعالى على الكائنات. كان الإنسان واحداً «ذكراً وأنثى خلقهما» معاً، فالسلطة أعطيت لكليهما وعندما أخطأا خسرا نعمة القداسة، ولكن المسيح يسوع فدانا بموته الكفاري وبذلك أعاد صورة القداسة إلى الإنسان كرجل وكامرأة بالتساوي. كما أنّ الله تعالى ساوى بين المرأة والرجل، في العهد القديم ففي الوصية الخامسة يقول: «أكرم أباك وأمك»(خر 20: 12) كما جاء أيضاً في كتاب الأمثال قول سليمان: «يا بني لا تترك شريعة أمك، أربطها على قلبك قلد بها عنقك، إذا سرت تهديك، وإذا نمت تحرسك، وإذا استيقظت فهي تحدثك» (أم 6: 20). ولكن الذي شوّه مفهوم وصايا الله هم آباء اليهود بتعاليمهم البعيدة عن روح الشريعة الإلهية. وبهذا الصدد قال الرب يسوع لليهود: «لماذا تتعدّون وصية الله بسبب تقليدكم فإنَّ الله أوصى قائلاً أكرم أباك وأمك ومن يشتم أباً أو أماً فليمت موتاً وأما أنتم فتقولون من قال لأبيه أو أمه قربان هو الذي تنتفع به مني، فلا يكرم أباه وأمه. فقد أبطلتم وصية الله بسبب تقليدكم» (مت 15: 3ـ 6).
أجل! إنَّ الرب يسوع المسيح رفع مقام المرأة في شخص العذراء مريم، فقد اختارها لتكون أماً له لعفتها وقداستها فاستحقّت أن يحلّ عليها الروح القدس ويطهّرها وينقيها من الخطيئة ويقدسها. حينذاك حلّ في أحشائها نار اللاهوت ليولد الابن الإلهي منها إلهاً متجسداً، ونحن ندعوها (يلدة ءلؤا) ثيوتوكوس أي والدة الله التي ولدت الإله المتجسّد، فهذه المرأة العذراء أعادت إلى المرأة حواء مقامها الأول الذي فقدته من جرّاء سقوطها في الخطيئة، ومع هذا لم تنل العذراء مريم موهبة الكهنوت المقدس ولئن سمت على الأنبياء والكهنة والشهداء والمعترفين والرسل والمبشرين فهي التي أنبأت الرسل بما جرى لها ومعها بدءاً من بشارة الملاك جبرائيل لها بالحبل الإلهي. فالعذراء مريم أول من بشّر بالمسيح وآمنت بقدرته الإلهية ونعتبرها أسمى من الأنبياء وقد تنبأت عن نفسها قائلة: «هوذا منذ الآن جميع الأجيال تُطوّبني لأن القدير صنع بي عظائم واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال للذين يتقونه»(لو 1: 48ـ50). والرب يسوع كرّم أمه العذراء مريم وهو طفل، واعتنى بها موفّراً لها معيشتها وهو شاب بعد موت يوسف خطيبها. وكرّم أيضاً النسوة عامة لأنه أشفق على السامرية الخاطئة المنبوذة من شعبها وكلّمها في الوقت الذي كان معلمو الشريعة اليهود لا يكلمون امرأة في الطريق ولو كانت تلك المرأة من أقرب أقربائهم. وأشفق الرب يسوع أيضاً على الخاطئة التي أراد الفرّيسيون رجمها فغفر لها. إن السيد المسيح فعل ذلك في الوقت الذي كان اليهود لا يحسبون حساباً للمرأة. فعندما نقرأ عن أعجوبة إشباع خمسة آلاف رجل بخمسة أرغفة وسمكتين، التي دوّنها الرسول متى في الإنجيل المقدس قائلاً: «والآكلون كانوا نحو خمسة آلاف رجل ما عدا النساء والأطفال»(مت 14: 21) نفهم من هذا التعبير الذي كان سائداً عند اليهود، أن المهم لديهم هو الرجل أما المرأة والطفل فمتساويان بعدم الأهمية. لكن الرب يسوع أعار المرأة اهتمامه الإلهي، فكانت بعض النساء يتجولن معه ويخدمنه ويخدمن تلاميذه وكان صديق مرتا ومريم وأليعازر أخيهما (يو 11: 5) ولا بد أن نذكر في هذا المجال بأن النساء أخلصن للمسيح فقد تبعنه وهو في طريقه إلى الجلجلة وبكين عليه ومعه وتألمن كثيراً عندما رأينه معلقاً على الصليب يتألم ويتكلم، وسمعنه يوصي بأمه العذراء مريم، معلماً كل إنسان أن يكرم أمه ويعتني بها، وتبعنه إلى القبر الجديد حيث دفن جسده الطاهر وكنَّ أول من جاء إلى القبر باكراً ليطيبن جسده... وكنَّ أول من رآه بعد أن قام من بين الأموات وأول من آمن بقيامته وبشر بها. وساعدت المرأة الرسل والمبشّرين في ميدان نشر البشارة المحيية، فقد جاء في سفر أعمال الرسل عن بنات فيلبس الأربع اللواتي كنّ عذارى وأنهنّ كنّ يتنبأنّ (أع 21: 9) وكان فيلبس المبشر أحد الشمامسة السبعة ،ونقرأ للرسول بولس وهو يدحض آراء الذين احتجوا عليه لاصطحابه معه امرأة في جولاته التبشيرية قائلاً: «ألعلّنا ليس لنا سلطان أن نجول بأخت زوجةً كباقي الرسل وأخوة الرب وصفا» (1كو 9: 5). هذا علاوة على أهمية دور المرأة في بناء الأسرة وتنظيمها، وتربية الأولاد وتنشئتهم وبهذا الصدد يقول الرسول بولس: «إن المرأة تخلص بولادة الأولاد»(1تي 2: 15) ويقصد الولادة الجسدية الطبيعية والولادة الروحية من فوق من السماء. وإننا نرى أن هذه المرأة التي أصبحت على استعداد لتلد الناس من السماء كانت قد ولدت هي أيضاً من السماء. فإذا كان الله تعالى في البدء قد خلق الإنسان ذكراً وأنثى، وساوى بينهما بالحقوق والواجبات، ففي عهد الفداء خلقنا ثانية من السماء عندما حلّ الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة، وكان في العلية مائة وعشرون شخصاً رجالاً ونساءً وعندما دوّن لوقا هذه الحادثة أحصاهم جميعاً ولم يكتفِ بإحصاء الرجال فقط لذلك لم يقل ماعدا النساء حيث قد حلّ الروح القدس على الجميع، على الرسل والتلاميذ، وعلى النسوة في آنٍ معاً، وفي مقدمة النساء كانت العذراء مريم والدة الإله المتجسّد ونالوا جميعاً مواهب الروح القدس السامية النساء كالرجال، وكانت النساء قبيل ذلك تشارك الرجال بالصلاة في العلية، وهم جميعاً ينتظرون مجيء القوة من العلاء، فحلّ الروح القدس عليهنّ كما حلّ على الرسل وسائر التلاميذ بشبه ألسنة نارية بدون تفريق بين الرجل والمرأة. ويصف البشير لوقا في سفر أعمال الرسل هذا الحدث الإلهي قائلاً: «وكان عدة أسماء معاً نحو مائة وعشرين... ولما حضر يوم الخمسين كان الجميع معاً بنفسٍ واحدة.. وامتلأ الجميع من الروح القدس» (أع 1: 14 و 2: 1) والروح القدس هيأهم جميعاً لحمل بشارة الإنجيل إلى العالم، وصانهم من الزلل والخطل وذكّرهم بكل ما قاله الرب يسوع لهم فتمسّكوا بتعاليمه السامية ونشروها. ولا بد أن نذكر في هذا المضمار المؤمنات اللواتي كنّ يخدمن في قصور الملوك والعظماء والرؤساء والنبلاء كيف أنهن كنّ مبشّرات بالإنجيل المقدس قولاً وعملاً وخاصة بتربية الأطفال وبالسيرة الصالحة، وبواسطتهن انتشر الإنجيل المقدس بهدوء وقوة كالخميرة التي تخمّر العجين كلّه، واقتحم الإنجيل ولكن بسلام قلاع الوثنية الضالّة والمضلّة واليهودية التي كانت قد حادت عن الناموس فخضعت جماهير غفيرة من الديانتين في بدء المسيحية للإنجيل المقدس. ونحن ككنيسة تتمسك بالإنجيل المقدس والتقليد الرسولي والكنسي لابدّ أن نعترف بأن الله أنعم على بعض النساء بمواهب قيادية روحية سامية، ظهرت عبر الدهور والأجيال بوضوح في سيرهن، وللكنيسة السريانية حظ وافر في هذا الميدان. وللمرأة السريانية الكرامة الكبرى في الكنيسة لما لعبته من أدوار فعالة في خدمتها. ونذكر في هذا المضمار هيلانة الملكة المسيحيةً التي كانت ابنة قسيس سرياني بجوار الرها، وربّت ابنها قسطنطين التربية الصالحة ونذرت أنه إذا تنصّر ستذهب إلى أورشليم وتفتش عن خشبة الصليب، وأتمّت نذرها. ولا بد أن نذكر أيضاً في هذا المجال المرأة التي صارت فخر الكنيسة السريانية وتربعت على عروش قلوبنا وتلت العذراء مريم مكانة وقدراً وإكراماً لدينا إنها الإمبراطورة تيودورة زوجة الإمبراطور جوستنيان، في القرن السادس للميلاد. كانت هذه المرأة العجيبة سريانية ابنة قسيس منبج السرياني في سورية. ونحن نجلّها ونبجّلها ونطّوبها لأنها كانت تعزي آباءها الروحيين أحبار الكنيسة الأجلاء وتستقبلهم باحترام وتخدمهم في الزمن العصيب الذي كانت الحكومة البيزنطية تضطهدهم فيه وتشرّدهم وتنفيهم وتقتلهم فاستشهد ألوف مؤلفة منهم وتحمّل الباقون صنوف العذاب فكانت تيودورة الملكة تعزيهم وتحميهم، ولئن لم تقوَ على إيقاف الاضطهاد الذي أثارته بيزنطية ضدهم مجاناً. وكانت تيودورة وراء إرسال بعثة تبشيرية أنارت بنور الإنجيل المقدس بلاد الحبشة. كما أننا لا ننسى أبداً الراهبات اللواتي نذرن البتولية مع العفة والفقر الاختياري والطاعة وكرّسن أنفسهن لخدمة الإنجيل المقدس عبر الدهور والأجيال. هذا ما نفهمه من تراث آبائنا وتقاليدهم وتاريخهم المجيد.
أجل! برزت أيضاً في تاريخ كنيستنا السريانية الأرثوذكسية عبر الأجيال نسوة اشتهرن بسداد الرأي والشجاعة في إعلان الإيمان، وحازت الكثيرات منهن اكليل الشهادة في سبيل المسيح وتحملت أخريات الاضطهادات وصنوف العذاب فكن في عداد المعترفات وكانت الكثيرات قد حُزن ذكاءً فطرياً مثل المرأة الرهاوية التي التقاها مار أفرام على ضفاف نهر ديصان في الرها وهي ترنو إليه، فساءه ذلك منها وزجرها قائلاً: اخفضي نظرك أيتها المرأة وتطلعي إلى الأرض فأجابته «لي أن أنظر إليك أيها الرجل لأني منك أخذت، ولك أن تخفض نظرك إلى الأرض لأنك منها جبلت»، فأُعجب مار أفرام بحكمة هذه المرأة وقال: «إن كانت هذه حكمة نساء الرها، فما هي درجة حكمة رجالها يا ترى».
وفي الرها التي ألقى مار أفرام عصا الترحال فيها بعد هجره نصيبين عام 363 على أثر استيلاء الفرس عليها، كان مار أفرام تارة يتنسّك في جبل الرها المقدس وتارة يتفرّغ للتدريس في مدرستها الشهيرة. واهتم بالحياة الطقسية، إذ أدخل إليها أناشيده المنظومة الموقعة على ألحان خاصة كما ألّف جوقة مختارة من فتيات الرها اللواتي علّمهن ما ابتكره أو اقتبسه من ألحان وما نظمه من القصائد الروحية البديعة والتراتيل الشجية التي ضمّنها العقائد الدينية وصورة الإيمان القويم.
لا شك في أن مار أفرام بتأليفه جوقة المرتلات من الشابات العذارى، رفع من مقام المرأة وبرهن عملياً على أن الرسول بولس عندما كتب في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (14: 34) قائلاً: «لتصمت نساؤكم في الكنائس لأنه ليس مأذوناً لهن أن يتكلمن» فعل ذلك من باب التنظيم المؤقت ليس إلاّ، وأن هذه الصيغة من الطلب ليست عقيدة إيمانية لا يجوز تحويرها أو تبديلها، بل قضية مكانية تنظيمية، تخص النسوة اللواتي دَأبن على اللغو والهرف بما لا يجدي، في الوقت الذي يكون الجميع أمام العزة الإلهية مصلين قانتين خاشعين. وان مار أفرام السرياني بتأليفه جوقة الترتيل صار رائداً في المسيحية في هذا الميدان وأثبت حقيقة أن المرأة كالرجل لها الحق في تسبيح الله في الصلاة الجمهورية، كما أنه ساوى بينهما في نفس رسالته بقوله: «غير أن الرجل ليس من دون المرأة ولا المرأة من دون الرجل في الرب» (1كو 11: 11) .
ويظهر تأثير مار أفرام في تربية المرأة في الرها على جداول مياه الإنجيل المقدس والتمسك بالعقيدة السمحة وتحمل الاضطهاد في سبيل الإيمان بشجاعة فائقة. ينجلي كل ذلك من حادثة المرأة الرهاوية في اضطهاد واليس الأريوسي في أواخر القرن الرابع وبالضبط سنة 373م الذي كان قد عيّن أسقفاً أريوسياً في الرها، قاطعه المؤمنون، وكانوا يصلون خارج المدينة، ويوم الأحد تهافت المؤمنون في الصباح الباكر إلى خارج المدينة والجند يلقون القبض عليهم ويزجّونهم في غياهب السجون، والتقى الوالي إحدى المؤمنات وهي تركض متّجهة نحو موضع تجمع المؤمنين، حاملة طفلها الرضيع، فاعترضها وأوقفها، وذكّرها بأمر السلطة والعقاب الشديد الذي يتعرض له من يخالف ذلك الأمر، فأبدت استعدادها لتحمل العذاب في سبيل التمسك بالعقيدة الإيمانية السمحة، وسألها أيضاً قائلاً: علمنا أنك قد تركت باب دارك مفتوحاً وأنت تركضين بسرعة هائلة وقد حملت رضيعك أيضاً، فلماذا فعلت ذلك، فأجابته: أما الدار فأنا على يقين أنني لن أعود إليها، أما طفلي هذا فلمحبتي الشديدة له أريده أن ينال معي إكليل الشهادة، ليكون معي في الفردوس متنعماً ولأنقذه من الهلاك بضلالتكم.
هكذا نرى أن المرأة المؤمنة تستحق كل تكريم منّا وكنيستنا السريانية تعرف فضلها وفضيلتها وتعطيها مكانتها من الكرامة.