الموت خاتمة الأتعاب وبدء الراحة الأبدية
بعد الدعاء من الرب يسوع المسيح له المجد الذي هو معلمنا ومرشدنا ومعزينا نقول:
قال الرسول بولس لِىَ الحَيَاة هي المَسِيحُ والمَوتُ هو رِبحٌ.. لِىَ اشْتِهَاءٌ أنْ أَنطَلِقَ وأَكُونَ مع المَسيحِ ذَاكَ أَفضَلُ جدِّاً في (23، 21:1) وقال نَثِقُ ونُسَرُّ بِالأَولَى أنْ نَتَغَرَّبَ عَن الجَسَدِ ونَسْتَوطِنَ عِندَ الرَّبِّ 2كو (8:5) وقال المرتل: عَزِيزٌ في عَينَىِ الرَّبِّ مَوتُ أَتقِيائِهِ مز (15:116) وقال سمعان الشيخ الآنَ تُطلِقُ عَبدَكَ يا سَيِّدُ حَسَبَ قَولِكَ بِسَلامٍ لأنَّ عَينَىَّ قد أَبصَرَتا خَلاصَكَ لو (30، 29:2) وقال يوحنا الرسول في رؤياه وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً لِي: اكْتُبْ طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ. نَعَمْ يَقُولُ الرُّوحُ: لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ. رؤ (13:14).
الموت هو انفصال النفس عن الجسد حتى يزول عنه مبدأ الحياة وينحلّ إلى عناصره الأصلية. فالتراب يعود إلى التراب الذي أُخذ منه. وترجع الروح إلى خالقها الذي أعطاها. فالموت إذاً ليس هو مُلاشاة الإنسان وفناؤه. بل هو انفصال فقط فإنَّ الروح العاقلة خالدة لا تموت وفي جوهرها لا تقبل الانقسام والتجزؤ. ولا توجد قوة في الكون تقدر أنْ تُلاشيها فإنَّ الجسد الذي هو مسكن لتلك الروح ينهدم وينقض بعد خروج النفس وانطلاقها إلى عالم الخلود.
ويُعبَّر عن الموت في العهد القديم بالذهاب في طريق الأرض كلها. يش (14:23) وبالسلوك في طريق لا عود منها أي (22:16) بالانضمام إلى قومنا تك (33:49) وبالانحدار إلى أرض السكوت مز (17:115) وبالعود إلى التراب تك (19:3) ومز (29:104) وبالانحسام أي (2:14) وبالبروح كالظل أي (2:14)
وفى العهد الجديد يُعبَّر عن الموت بالنوم يو (11:11) وينقض بيت خيمتنا الأرضى 2كو (1:5) ويخلع مسكننا 2بط (14:1) ويطلب الله النفس لو (20:12) وبإسلام الروح أع (10:5) وبالانطلاق في (23:1) وبالانحلال 2تى (6:4) وبرقاد في المسيح 1كو (18:15) و1تس (14:4) وبالاستيطان عند الرب 2كو (8:5).
كان الموت في الأصل عقاباً على الخطية ولكن مُخلِصنَا كسر شوكته وأباد سلطته وحوَّله إلى واسطة للانتقال إلى حياة جديدة سعيدة. فالموت ليس سوى رقاد هادئ، ونوم تعقبه اليقظة في دار الخلود. ولذلك قال السيد عن موت لعازر. أنه قد نام وأنا ذاهب لأوقظه يو (11:11) وقال الرسول بولس: ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. 1تس (14، 13:4).
فالذين ينتقلون وهم مؤمنون بالمسيح لا يُدعَون موتى بل أنَّهم رقدوا واستراحوا في الرب على رجاء القيامة. فهُم رقود لا أموات. وقد وصلوا الميناء الأمين حيث نالوا عربون السعادة إلى أنْ يحصلوا على كمال الأمجاد في السماء في القيامة المجيدة، كما ذكرنا أيضاً هنا. بعد النوم الصحو وبعد الرقود اليقظة. فما الموت إلاَّ راحة من عناء أتعاب وغموم هذه الدنيا. وكما أنَّ النائم بعد نهار صُرِفَ في التعب والعمل يشعر بالراحة في نومه إلى أنْ يستيقظ مُجدَّد القوى في النهار التالى، هكذا الموت فإنَّه راحة ونوم هنئ للمؤمنين. لا تتخلله أحلام مزعجة إلى أنْ يقوم في الحياة الجديدة في صباح القيامة المجيد بحياة مجيدة.
إنَّ المسيح له المجد هو الذي أنار لنا الحياة والخلود وبقيامته صار باكورة للراقدين فمَنْ مات في المسيح لاقى الموت بهدوء ورجاء، واجتاز الظلمات بلا خوف قائلاً مع داود النبي: إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. مز (4:23). قال الرسول بولس: لأَنَّ هذَا الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ.. فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟. أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 1كو (15: 53ـ57).
فما الموت إذاً إلاَّ رقاد لذيذ تعقبه راحة أبدية لا نهاية لها. وخاتمة أتعاب انتهت. وبدء حياة جديدة بمجد أبدى. وميلاد جديد سرمدى. هو وإنْ كان مخيفاً ومُفزعاً لأنَّه يفصل بين النفس والجسد المتحدين إلاَّ أنَّه حامل في يده مفتاحاً ذهبياً للصديقين، يفتح لهم أبواب السماء للدخول إلى الراحة الأبدية. وما أسعد الراحة بعد التعب وما أشهى المكافأة بعد العمل والتعب وما أفضل نَيل الأكاليل بعد الجهاد والكفاح. لذلك قال الرسول عندما شعر بقرب انحلاله فَإِنِّي أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا. 2تى (4: 6ـ8).
السفينة مادامت في البحر فهى عرضة للخطر. والمسافر لا يزال جزعاً حتى يصل إلى الميناء. هكذا نحن مادمنا في العالم فنحن عُرضة لسهام التجارب. وما أكثر التجارب التي تُلاطمنا والأنواء التي تُهاجمنا. لأنَّنا نجاهد ضد الأهواء. فإنْ قهرنا الجسد نهض الطمع. وإنْ ذللنا الطمع ناصبنا الغضب. وإنْ انتصرنا على الغضب قاومنا الحسد. وهكذا لا تزال سلسلة أعداء تلو بعضها تناصبنا وتبارزنا ولا تكف عن الأذى مادمنا في الجسد. قال الرسول: لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. غل (17:5) وهذا العراك دائم مادمنا في الجسد. ولكن الموت يفصل بين هذا النزاع فيَكُفُّ الحرب ويهدأ الخصام وكما قال الرسول: لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْخَطِيَّةِ (رو 7:6) فبالموت يتم الإنتصار ويبطل الخوف ويكون السلام التام.
انظر إلى الحياة ترها جهاداً في جهاد وتعباً وألماً وحزناً وبؤساً، وأصوات البكاء تتردد فيها، وأَنَّات الآلام وزفرات الأتعاب تتصاعد من كل قلب مُعلنة صنوف الشقاء. وهذه كلها لا تنتهى حتى ينتهى الجسد. ومتى تأملنا في كل ما حولنا صرخنا مع النبي قائلين: قُومُوا وَاذْهَبُوا، لأَنَّهُ لَيْسَتْ هذِهِ هِيَ الرَّاحَةَ مى (10:2) وأعطينا الغبطة للذين رقدوا، ولسان حالهم يقول مع المرتل: ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ مز (7:116) فهذه الدنيا ليست دار راحة لنا فإنَّنا سنبقَى فيها مُغرَّبين إلى أنْ نستريح بالله.
لو وَعَدَ أحد الملوك شخصاً بائساً بأنَّه بعد زمن قصير يُسكِنَه في قصره الباذخ الممتلئ بكل أنواع الأبهة والجلال ويجلس على مائدته ويكون في حضرته على الدوام. ألا يقضى ذلك المسكين أيامه بأنين من الشوق منتظراً قرب الأجل لإتمام وَعْدْ الملك له ليترك كوخه الحقير ويقطن ذلك القصر البهيج. على هذا المثال قد أعدَّ الله لنا مكاناً في السماء ووعدنا بأنْ نكون معه. قال ربنا له المجد: فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا يو (3، 2:14) وقال الرسول: وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ 1تس (17:4) وقد وعدنا بالميراث الأبدى والمجد معه في السماء. وكل مجد العالم لا يساوى ذرَّة بالنسبة لبهاء الملكوت. وكل أدهار الحياة الدنيا لا تقاس بدقيقة من دقائق السعادة الأبدية. فلماذا لا تلتهب قلوبنا شوقاً انتظاراً لرؤية وجه الرب والانعتاق من ديار الألم والتعب للوصول إلى دار مجد يفوق العقول. ومتى أقبلت ساعة خروجنا من العالم ألا يجب أنْ نفرح حين نُفارق عالماً حقيراً زمنياً لندخل عالماً سعيداً أبدياً. ما أحب تلك الساعة لدى الصديقين فإنَّهم يلاقونها بتهليل إذ بعد قليل يتمتعون برؤية مُخلِصَهُم. إنَّ نظرة واحدة في وجه مُخلِصَهُم المبارك لَهِىَ أثمن بما لا يقاس من ألوف مثل هذا العالم. ومَنْ ذا الذي يحزن ويجزع وهو يعلم أنَّه منطلق إلى بيت أبيه لينال ميراثه الأبدى حيث لا دموع ولا وجع ولا بكاء ولا حزن بل شبع سرور ومجد لا يُنعت. ميراث لا يفنى ولا يضمحل وأبدية لا تنتهى. ومَنْ لا يقول حينئذ مع داود النبي: كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟. مز (2، 1:42) ويقول مع بولس الرسول: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا.
وللمسيح المجد من الأزل وإلى أبد الأبدين آمين
بعد الدعاء من الرب يسوع المسيح له المجد الذي هو معلمنا ومرشدنا ومعزينا نقول:
قال الرسول بولس لِىَ الحَيَاة هي المَسِيحُ والمَوتُ هو رِبحٌ.. لِىَ اشْتِهَاءٌ أنْ أَنطَلِقَ وأَكُونَ مع المَسيحِ ذَاكَ أَفضَلُ جدِّاً في (23، 21:1) وقال نَثِقُ ونُسَرُّ بِالأَولَى أنْ نَتَغَرَّبَ عَن الجَسَدِ ونَسْتَوطِنَ عِندَ الرَّبِّ 2كو (8:5) وقال المرتل: عَزِيزٌ في عَينَىِ الرَّبِّ مَوتُ أَتقِيائِهِ مز (15:116) وقال سمعان الشيخ الآنَ تُطلِقُ عَبدَكَ يا سَيِّدُ حَسَبَ قَولِكَ بِسَلامٍ لأنَّ عَينَىَّ قد أَبصَرَتا خَلاصَكَ لو (30، 29:2) وقال يوحنا الرسول في رؤياه وَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ قَائِلاً لِي: اكْتُبْ طُوبَى لِلأَمْوَاتِ الَّذِينَ يَمُوتُونَ فِي الرَّبِّ مُنْذُ الآنَ. نَعَمْ يَقُولُ الرُّوحُ: لِكَيْ يَسْتَرِيحُوا مِنْ أَتْعَابِهِمْ، وَأَعْمَالُهُمْ تَتْبَعُهُمْ. رؤ (13:14).
الموت هو انفصال النفس عن الجسد حتى يزول عنه مبدأ الحياة وينحلّ إلى عناصره الأصلية. فالتراب يعود إلى التراب الذي أُخذ منه. وترجع الروح إلى خالقها الذي أعطاها. فالموت إذاً ليس هو مُلاشاة الإنسان وفناؤه. بل هو انفصال فقط فإنَّ الروح العاقلة خالدة لا تموت وفي جوهرها لا تقبل الانقسام والتجزؤ. ولا توجد قوة في الكون تقدر أنْ تُلاشيها فإنَّ الجسد الذي هو مسكن لتلك الروح ينهدم وينقض بعد خروج النفس وانطلاقها إلى عالم الخلود.
ويُعبَّر عن الموت في العهد القديم بالذهاب في طريق الأرض كلها. يش (14:23) وبالسلوك في طريق لا عود منها أي (22:16) بالانضمام إلى قومنا تك (33:49) وبالانحدار إلى أرض السكوت مز (17:115) وبالعود إلى التراب تك (19:3) ومز (29:104) وبالانحسام أي (2:14) وبالبروح كالظل أي (2:14)
وفى العهد الجديد يُعبَّر عن الموت بالنوم يو (11:11) وينقض بيت خيمتنا الأرضى 2كو (1:5) ويخلع مسكننا 2بط (14:1) ويطلب الله النفس لو (20:12) وبإسلام الروح أع (10:5) وبالانطلاق في (23:1) وبالانحلال 2تى (6:4) وبرقاد في المسيح 1كو (18:15) و1تس (14:4) وبالاستيطان عند الرب 2كو (8:5).
كان الموت في الأصل عقاباً على الخطية ولكن مُخلِصنَا كسر شوكته وأباد سلطته وحوَّله إلى واسطة للانتقال إلى حياة جديدة سعيدة. فالموت ليس سوى رقاد هادئ، ونوم تعقبه اليقظة في دار الخلود. ولذلك قال السيد عن موت لعازر. أنه قد نام وأنا ذاهب لأوقظه يو (11:11) وقال الرسول بولس: ثُمَّ لاَ أُرِيدُ أَنْ تَجْهَلُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ مِنْ جِهَةِ الرَّاقِدِينَ، لِكَيْ لاَ تَحْزَنُوا كَالْبَاقِينَ الَّذِينَ لاَ رَجَاءَ لَهُمْ. لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا نُؤْمِنُ أَنَّ يَسُوعَ مَاتَ وَقَامَ، فَكَذلِكَ الرَّاقِدُونَ بِيَسُوعَ، سَيُحْضِرُهُمُ اللهُ أَيْضًا مَعَهُ. 1تس (14، 13:4).
فالذين ينتقلون وهم مؤمنون بالمسيح لا يُدعَون موتى بل أنَّهم رقدوا واستراحوا في الرب على رجاء القيامة. فهُم رقود لا أموات. وقد وصلوا الميناء الأمين حيث نالوا عربون السعادة إلى أنْ يحصلوا على كمال الأمجاد في السماء في القيامة المجيدة، كما ذكرنا أيضاً هنا. بعد النوم الصحو وبعد الرقود اليقظة. فما الموت إلاَّ راحة من عناء أتعاب وغموم هذه الدنيا. وكما أنَّ النائم بعد نهار صُرِفَ في التعب والعمل يشعر بالراحة في نومه إلى أنْ يستيقظ مُجدَّد القوى في النهار التالى، هكذا الموت فإنَّه راحة ونوم هنئ للمؤمنين. لا تتخلله أحلام مزعجة إلى أنْ يقوم في الحياة الجديدة في صباح القيامة المجيد بحياة مجيدة.
إنَّ المسيح له المجد هو الذي أنار لنا الحياة والخلود وبقيامته صار باكورة للراقدين فمَنْ مات في المسيح لاقى الموت بهدوء ورجاء، واجتاز الظلمات بلا خوف قائلاً مع داود النبي: إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا، لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. مز (4:23). قال الرسول بولس: لأَنَّ هذَا الْفَاسِدَ لاَبُدَّ أَنْ يَلْبَسَ عَدَمَ فَسَادٍ، وَهذَا الْمَائِتَ يَلْبَسُ عَدَمَ مَوْتٍ.. فَحِينَئِذٍ تَصِيرُ الْكَلِمَةُ الْمَكْتُوبَةُ ابْتُلِعَ الْمَوْتُ إِلَى غَلَبَةٍ. أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟. أَمَّا شَوْكَةُ الْمَوْتِ فَهِيَ الْخَطِيَّةُ، وَقُوَّةُ الْخَطِيَّةِ هِيَ النَّامُوسُ. وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يُعْطِينَا الْغَلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 1كو (15: 53ـ57).
فما الموت إذاً إلاَّ رقاد لذيذ تعقبه راحة أبدية لا نهاية لها. وخاتمة أتعاب انتهت. وبدء حياة جديدة بمجد أبدى. وميلاد جديد سرمدى. هو وإنْ كان مخيفاً ومُفزعاً لأنَّه يفصل بين النفس والجسد المتحدين إلاَّ أنَّه حامل في يده مفتاحاً ذهبياً للصديقين، يفتح لهم أبواب السماء للدخول إلى الراحة الأبدية. وما أسعد الراحة بعد التعب وما أشهى المكافأة بعد العمل والتعب وما أفضل نَيل الأكاليل بعد الجهاد والكفاح. لذلك قال الرسول عندما شعر بقرب انحلاله فَإِنِّي أَنَا الآنَ أُسْكَبُ سَكِيبًا، وَوَقْتُ انْحِلاَلِي قَدْ حَضَرَ. قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا. 2تى (4: 6ـ8).
السفينة مادامت في البحر فهى عرضة للخطر. والمسافر لا يزال جزعاً حتى يصل إلى الميناء. هكذا نحن مادمنا في العالم فنحن عُرضة لسهام التجارب. وما أكثر التجارب التي تُلاطمنا والأنواء التي تُهاجمنا. لأنَّنا نجاهد ضد الأهواء. فإنْ قهرنا الجسد نهض الطمع. وإنْ ذللنا الطمع ناصبنا الغضب. وإنْ انتصرنا على الغضب قاومنا الحسد. وهكذا لا تزال سلسلة أعداء تلو بعضها تناصبنا وتبارزنا ولا تكف عن الأذى مادمنا في الجسد. قال الرسول: لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ. غل (17:5) وهذا العراك دائم مادمنا في الجسد. ولكن الموت يفصل بين هذا النزاع فيَكُفُّ الحرب ويهدأ الخصام وكما قال الرسول: لأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ تَبَرَّأَ مِنَ الْخَطِيَّةِ (رو 7:6) فبالموت يتم الإنتصار ويبطل الخوف ويكون السلام التام.
انظر إلى الحياة ترها جهاداً في جهاد وتعباً وألماً وحزناً وبؤساً، وأصوات البكاء تتردد فيها، وأَنَّات الآلام وزفرات الأتعاب تتصاعد من كل قلب مُعلنة صنوف الشقاء. وهذه كلها لا تنتهى حتى ينتهى الجسد. ومتى تأملنا في كل ما حولنا صرخنا مع النبي قائلين: قُومُوا وَاذْهَبُوا، لأَنَّهُ لَيْسَتْ هذِهِ هِيَ الرَّاحَةَ مى (10:2) وأعطينا الغبطة للذين رقدوا، ولسان حالهم يقول مع المرتل: ارْجِعِي يَا نَفْسِي إِلَى رَاحَتِكِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَحْسَنَ إِلَيْكِ مز (7:116) فهذه الدنيا ليست دار راحة لنا فإنَّنا سنبقَى فيها مُغرَّبين إلى أنْ نستريح بالله.
لو وَعَدَ أحد الملوك شخصاً بائساً بأنَّه بعد زمن قصير يُسكِنَه في قصره الباذخ الممتلئ بكل أنواع الأبهة والجلال ويجلس على مائدته ويكون في حضرته على الدوام. ألا يقضى ذلك المسكين أيامه بأنين من الشوق منتظراً قرب الأجل لإتمام وَعْدْ الملك له ليترك كوخه الحقير ويقطن ذلك القصر البهيج. على هذا المثال قد أعدَّ الله لنا مكاناً في السماء ووعدنا بأنْ نكون معه. قال ربنا له المجد: فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ فَإِنِّي كُنْتُ قَدْ قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا أَمْضِي لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آتِي أَيْضًا وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، حَتَّى حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا يو (3، 2:14) وقال الرسول: وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ 1تس (17:4) وقد وعدنا بالميراث الأبدى والمجد معه في السماء. وكل مجد العالم لا يساوى ذرَّة بالنسبة لبهاء الملكوت. وكل أدهار الحياة الدنيا لا تقاس بدقيقة من دقائق السعادة الأبدية. فلماذا لا تلتهب قلوبنا شوقاً انتظاراً لرؤية وجه الرب والانعتاق من ديار الألم والتعب للوصول إلى دار مجد يفوق العقول. ومتى أقبلت ساعة خروجنا من العالم ألا يجب أنْ نفرح حين نُفارق عالماً حقيراً زمنياً لندخل عالماً سعيداً أبدياً. ما أحب تلك الساعة لدى الصديقين فإنَّهم يلاقونها بتهليل إذ بعد قليل يتمتعون برؤية مُخلِصَهُم. إنَّ نظرة واحدة في وجه مُخلِصَهُم المبارك لَهِىَ أثمن بما لا يقاس من ألوف مثل هذا العالم. ومَنْ ذا الذي يحزن ويجزع وهو يعلم أنَّه منطلق إلى بيت أبيه لينال ميراثه الأبدى حيث لا دموع ولا وجع ولا بكاء ولا حزن بل شبع سرور ومجد لا يُنعت. ميراث لا يفنى ولا يضمحل وأبدية لا تنتهى. ومَنْ لا يقول حينئذ مع داود النبي: كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ، هكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ. عَطِشَتْ نَفْسِي إِلَى اللهِ، إِلَى الإِلهِ الْحَيِّ. مَتَى أَجِيءُ وَأَتَرَاءَى قُدَّامَ اللهِ؟. مز (2، 1:42) ويقول مع بولس الرسول: لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا.
وللمسيح المجد من الأزل وإلى أبد الأبدين آمين