الإستشهاد المسيحي و مجد الشهداء‏

أضف رد جديد
yakup
عضو
عضو
مشاركات: 658
اشترك في: السبت مايو 15, 2010 7:27 am

الإستشهاد المسيحي و مجد الشهداء‏

مشاركة بواسطة yakup »


الإستشهاد المسيحي ومجد الشهداء

بقلم المتنيح /الأنبا ياكوبوس

أسقف الزقازيق ومنيا القمح

قصة الإستشهاد فى تاريخ الكنيسة المبكر، هى قصة المسيحية المبكرة وإنتشارها عبر الزمان وفى كل مكان حية مضيئة الطريق، طريق الملكوت بنور الإيمان الحقيقى الذى وهبه الرب لنا لا عن إستحقاق بل بحبه الفائق الذى تجلى على الصليب، إذ قدم ذاته ذبيحة كفارية عن العالم، لكى يهب الخلاص والحياة الأبدية لكل الذين يؤمنون به ويريدون أن يحيوا حياة القداسة الحقيقية سائرين على طريق الملكوت فى جهاد مستمر طول الحياة. أعمالهم مضيئة أمام عيوننا وثمار فضائلهم نتذوقها، فنذوق طعم الأبدية.

لهم الأكاليل المعدة فى السماء، أكاليل الإستشهاد وأكاليل الغلبة والعفة والخدمة، وأكاليل البذل والعطاء والشهادة للمسيح الذى أحبنا وبذل ذاته لأجلنا لكى يحضرنا قديسين وبلا لوم قدامه فى المحبة.

إن الإستشهاد المسيحى بنتائجه هو برهان عملى على صحة قول السيد المسيح له المجد: " إن لم تقع حبة الحنطة فى الأرض وتمت فهى تبقى وحدها. ولكن إن ماتت تأتى بثمر كثير " (إنجيل يوحنا 12: 24 )

ويقول القديس يوستينوس الشهيد: [ها أنت تستطيع أن ترى بوضوح أنه حينما تقطع رؤوسنا ونُصلب، ونلقى للوحوش المفترسة، ونقيد بالسلاسل، ونلقى فى النار، وكل أنواع التعذيب، أننا لا نترك إيماننا. بل بقدر ما نعاقب بهذه الضيقات، بقدر ما ينضم مسيحيون أكثر إلى الايمان باسم يسوع المسيح إن الكرام يقطع أغصان الكرمة التى تحمل ثماراً، حتى تنمو أغصان أخرى. وهذا يصيرها أكثر حيوية وأكثر اثماراً. وهذا ما يحدث معنا. فالكرمة التى غرست بواسطة الله مخلصنا يسوع المسيح هو شعبه]

لقد آمن كثيرون بسبب آلام الشهداء وموتهم، بما صاحب إستشهادهم من معجزات، وما أظهروه من ثبات وإحتمال وصبر وليس من المبالغة فى شئ إن قلنا أن الإيمان المسيحى إنتشر فى العالم كله بإستشهاد القديسين، أكثر مما إنتشر بوعظ المبشرين وتعليمهم... فدماء الشهداء روت بذار الإيمان فنما الإيمان وأتى بثمار كثيرة لحساب ملكوت الله.

لقد كسب المؤمنون المسيحيون الأوائل نفوساً كثيرة. ونالوا هذا الكسب بموتهم أكثر مما نالوه بحياتهم أو معجزاتهم...والشهداء قدموا برهاناً عملياً على صدق تعاليم المسيحية وفضائلها...وكما تختبر المعادن بالنار، كذلك تختبر الفضائل بالآلام والضيقات... وكانت الإضطهادات العنيفة التى قاستها المسيحية، برهاناً على أصالة فضائلها.

لقد أثبت الإستشهاد أصالة الفضائل التى علمت بها المسيحية، متجسدة فى أشخاص المعترفين والشهداء، الذى لم تقوى آلامهم المبرحة على تحويلهم عن الفضيلة وسموها فى شتى صورها...

ويقول يوسابيوس المؤرخ الكنسى الذى عاش وسط الاضطهادات بخصوص عفة وطهارة العذارى والنساء: [ لم يكن النساء أقل من الرجال بسالة فى الدفاع عن تعاليم الكلمة الإلهية، إذ اشتركن فى النضال مع الرجال. ونلن معهم نصيباً متساوياً من الأكاليل من أجل الفضيلة. وعندما كانوا يجروهن لأغراض دنسة، كن يفضلن تسليم حياتهن للموت عن تسليم أجسادهن للنجاسة !!]

والسؤال الذى يطرح أمامنا، ما الذى دفع المسيحيين لإحتمال أهوال العذابات التى تصيب الانسان بالهلع لمجرد سماعها ؟!

الاجابة على هذا السؤال الذى يبدو غريباً على أذهاننا وعلى مفهومنا ما يلى:


قدمت المسيحية مفهوماً جديداً للألم...

لم يعد الألم أمراً يتعلق بالجسد، لكن غدا له مفهوم روحى يرتبط بالحب – محبة المسيح !! ونحن نرى الحب فى شخص المسيح يسعى نحو الألم ليستخلص من براثنه من إقتنصهم، ويحرر من سلطانه من أذلهم...

لقد تغيرت مذاقة الألم، وأصبح صليب الألم شعار المجد والغلبة والنصرة، بل الواسطة إليها..

فى المسيحية ننظر إلى الصليب على أنه علامة الحب الذى غلب الموت وقهر الهاوية، وأستهان بالخزى والعار والألم !!.

لقد أصبح إحتمال الألم من أجل المسيح هبة روحية... " لأنه قد وُهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله " ( رسالة فيلبي 1: 29 )

وهكذا تبدلت صورة الألم ومذاقته فأرتفع إلى مستوى الهبة الروحية !!. وأصبح شركة مع الرب فى آلامه:

إن كنا نتألم معه لكى نتمجد أيضاً معه" ( رساله روميه 8: 17 ) لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته. " ( فى3: 10 )

وإذا كانت المسيحية هى الحب، فالموت فى سبيلها هو قمة الحب والبذل بحسب تعبير إكليمنضس السكندرى: الإستشهاد ليس مجرد سفك دم، ولا هو مجرد إعتراف شفهى بالسيد المسيح، لكنه ممارسة كمال الحب.


علمت المسيحية أن الإنسان مخلوق سماوى:

السماء بالنسبة للإنسان هى الهدف الأسمى، والغرض المقدس، هى كل شئ بالنسبة له، هى الكنز الحقيقى الذى يطلبه ويقتنيه.

هى وطنه الأصلى ومستقره النهائى. هى الوجود الدائم مع الله.

فبداية الإنسان يوم خُلق كانت فى السماء، وسوف تكون فيها نهايته حينما يعود إليها... ومن هنا أحس الإنسان بغربته فى العالم. هذا العالم الفانى الذى سوف يمضى وشهوته معه.

وجعل كل أشواقه أن يعود إلى وطنه الأول السماء .. وأكدت أسفار العهد الجديد هذه الحقيقة...

فيذكر معلمنا بولس الرسول فى رسالته إلى العبرانيين قائلاً: " فى الإيمان مات هؤلاء أجمعون وهم لم ينالوا المواعيد بل من بعيد نظروها وصدقوها وحيوها وأقروا بأنهم غرباء ونزلاء على الأرض " (عبرانيين 11: 23 ) .

ويكتب إلى أهل كورنثوس "فإذا نحن واثقون كل حين وعالمون أننا ونحن مستوطنون فى الجسد فنحن متغربون عن الرب... فنثق ونسر بالأولى أن نتغرب عن الجسد ونستوطن عند الرب " ( 2كو5 6،8 : ).


وعلمت المسيحية أن الانسان المؤمن يجب أن تكون أشواقه نحو السماء

ويكتب معلمنا بولس إلى أهل كولوسى مشجعاً إياهم بقوله: " من أجل الرجاء الموضوع لكم فى السموات " ( كو1: 5 )

وفى هذا المعنى يكتب بولس الرسول قائلاً: " فإن سيرتنا فى السموات التى منها أيضاً ننتظر مخلصاً هو الرب يسوع المسيح " (فى3: 20( .

ويقول لأهل كولوسى " إطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله إهتموا بما فوق لا بما على الأرض " ( كولوسى 3: 1،2 )

وإنطلاقاً من هذا المفهوم أن الإنسان مخلوق سمائى، وأن أباه فى السماء، فإنه فى صلواته يناجى الله فى السماء، ويقدم صدقاته عالماً أنه يكنز فى السماء (مت19،20). ويتشفع بالملائكة، والقديسين الذين إنطلقوا إلى السماء..

بل وأكثر من هذا أن نفسه سوف تزف إلى العرس السمائى.. وبسبب كل هذه الأحاسيس والمفاهيم المقدسة كانت معنويات المعترفين والشهداء عالية جداً فى السجون.

كان غرض الأباطرة والملوك والحكام والوثنيين من سجن المعترفين المسيحيين، هو تحطيم شجاعتهم واضعاف روحهم المعنوية لكن على العكس، كان حبس المعترفين وتعذيبهم سبباً فى إعلاء شجاعتهم.

إنه أمر خارج حدود المنطق، وفائق لطبيعة البشر المألوفة، ان الأحزان تنشئ أفراحاً، والضيقات تولد تعزيات... لكنها المسيحية بمفاعيل النعمة الإلهية – بعمل الروح القدس فى المؤمنين هى التى تفعل ذلك... فبعض شهداء قرطاجنة – بعد أن وصفوا أهوال السجن – قالوا: [ إننا لم نخشى ظلام المكان. فلقد أضاء السجن الموحش ضياء روحانى. ولقد كان الإيمان والمحبة كالنهار يفيضان علينا ضوءاً أبيضاً ]... أما أسباب ذلك فكانت:

 المعونة الإلهية التى وعد الله بها جميع الذين يضطهدون من أجل اسمه . ( أنجيل لوقا 21: 12-19 ) .

‚ التطلع بإيمان إلى المجد العظيم الذى ينتظرهم، وأن المسيح له المجد سيمسح كل دمعة من عيونهم ( سفر رؤيا يوحنا 21: 4 ) .

تعاطف الكنيسة – بكل أعضاءها كجسد واحد – معهم، سواء بالصلوات التى ترفع لأجلهم أو العناية بالاهتمامات المادية واحتياجات أسرهم.

الرؤى المجيدة التى كانت تعلن لهم، وأن لها أعظم الأثر فى تشجيعهم. وأصبح السجن فى نظرهم باباً للسماء !!.

هكذا كان المعترفون فى السجون تفيض نفوسهم سلاماً... كانوا يتعجلون موعد محاكمتهم – لا احتمالاً للأفراج عنهم، بل لأنهم بوقفتهم أمام الحكام، يشعرون أنهم يشاركون الرب يسوع فى وقفة محاكمته أمام بيلاطس البنطى..

وتتجلى هذه الروح المعنوية العالية، والشجاعة المسيحية فى الحوار الذى جرى بينهم وبين قضاتهم...

لم يكن للمتهمين الذين يتمسكون بالايمان المسيحى سوى رد واحد يجيبون به، ظل يُسمع قرابة ثلاثة قرون فى ساحات القضاء بأنحاء الامبراطورية...

أما هذا الرد فهو [ أنا مسيحى Christian us Sum ] أما صيحة الشعب الهائج التى كانت تعقب هذا الاعتراف فهو [الموت للمسيحى]

كان المتهم لا يجيب عن وضعه الاجتماعى فى العالم، لأن الأمور الأرضية كانت تافهة القيمة فى نظره. حتى لو أراد القاضى أن يعرف ما إذا كان عبداً أو حراً، وهو موضوع كان على جانب كبير من الأهمية فى تلك الأزمنة، فإنه ما كان يهتم بالاجابة... لأن كل فكره كان مركزاً فى الإهتمام بالإنطلاق من هذا العالم الحاضر ليفرح بالإكليل المعد له من قبل الرب والميراث الأبدى. لينضم إلى كل الذين سبقوه من الشهداء والقديسين ليحيا معهم حياة التسبيح الدائم فى الفردوس.

إن الشهداء قبلوا الآلام، لا للآلام فى حد ذاتها ولكن لأنها علامة الشركة الحقيقية التى تربطهم بالسيد المسيح له المجد الذى قبل الآلام لأجلنا ليهبنا الحياة الأبدية.

إن سحابة الشهداء مازالت مضيئة فى الكنيسة إلى يومنا هذا، وهم يتشفعون أمام المسيح لأجل إخوتهم إلى أن يكمل العبيد رفقائهم.
أضف رد جديد

العودة إلى ”مواضيع دينية وروحية“