نصيحة لا تُقّدّر بثمن ... بقلم حنا لبيب خوري
نصيحة لا تُقّدّر بثمن ... بقلم حنا لبيب خوري
كان أخاً وصديقا وأهم من هذا وذاك كان رفيق درب قديم في الخط السياسي لأخي الكبير ، جمعهم إتجاه واحد منذ أولى سني شبابهم . وفي نهاية الستينات وفي مرحلة خدمتي للجيش في الخطوط الأولى ، عرّفني به أخي وأوصاه بي فيما أحتاجه خلال ما تبقَّ لي من الخدمة ، دخل قلبي من الوهلة الأولى ، وغمرني بلطفه ومحبته ؛ وفتح لي بيته طول خدمتي التي طالت أكثر من أربعة سنين فأصبحتُ مقيما لديه في فيلّته أنزل إلى دمشق كل أسبوع نجلس لديه في البيت ، نتسامر ونطرح شتى المواضيع الثقافية والإجتماعية ونغوص في عمق السياسات المحلية والعالمية ... بحر من الثقافة ، ورفعة في الأخلاق ، ومحبة الإنسان .. مرَّ بتمعّن على أغلب الآداب العالمية من .. الأدب الروسي .. الفرنسي .. الإنكليزي .. الأميركي .. كل كاتب عالمي حامل نوبل الأدب يعرف كتبه ولديه أغلبها .. عندما يسترسل في تحليل موضوع ما لا تريد أبدا أن تقاطعه ، حتى ينتهي من شرح فكرته وإعطاء رأيه بالموضوع فكأنه يقرأ أفكارك .
كان الكاتب المبدع عبد الرحمن منيف رحمه الله ، طويل القامة أسمر البشرة حلو الهيئة ، جميل الألفاظ والكلمات ، تخرج الجمل من فمه كاللؤلوء. لا يُمل من حديثه ، ودامت صداقتنا حتى غيّبته المنون .
أريد أن أقف لمرّة واحدة عند هذه الشخصية ومن وجهة نظر غريبة ...
عندما قررت أن أغادر الوطن وإتخذتُ الهجرة عنوانا لحياتي الباقية بعد ما لاقيته .. وفي آخر ليلة لي في دمشق ، أردتُ أن أقضيها معه في البيت لأودّعه من جهة وأتزوّد بنصائحه وهو الخبير والأديب والكاتب والخبير بالحياة ... لأنه قاسى حلوها ومرّها .. من يوغوسلافيا سابقا إلى باريس إلى بغداد إلى بيروت الى عمّان وأخيرا إلى دمشق .. وهو السعودي المولد والجنسية .
ما إن فتح الباب حتى إستقبلني بالقبلات والترحيب ، وجلسنا في صالونه النظيف .
- هل صحيح أنك قرّرت السفر أخيرا ؟؟
- هذا هو قدري .
تناول كأسين وصبّ لنا فيهما قليل من الويسكي كعادته عندما يواجه وضعا يزعجه ، أو موضوعا كهذا حساس ، وبعد أن رفدنا بقطعتين من الثلج جلس قبالي كأنه يودعني بنظراته .
لم أشأ أن أفوّت علي هذه الجلسة التي لا تُقدّر .... فبادرتُ إلى سؤاله ... ماذا تقول لي وما هو رأيك بالعالم الغربي ؟
- إسمع يا عزيزي ، وأشعل سيكاراً وبعد أن نفث دخانه عاليا تابع ..
صوت الطبل جميل من بعيد لكنه بالحقيقة فارغ من الداخل ، الكل يرغب في -وأنا هنا لا أعنيك - الكل يهرب من مجتمعه الذي لا أمل فيه للتحسّن وليس هناك أي بارق أمل مرجو للتغيير ، وهم في هذه الهجرات ينتهون إلى اللانهاية . يرجون أن ينعموا بالأمان والحرية ، ولكن ليست حريتهم تلك التي يفتشوا عنها ، ولا الأمان الرابض هناك سيغني إنساننا الشرقي .
ستمر بأيام سوداء قاتمة ، حتى ستقضي أياما بلاأكل وشرب وإحتمال أن تسير على قدميك ، وتقطع مسافات طويلة لتصل إلى المكان الذي تريده . ويجوز إذا استطعتَ أن تنام ، فقد تنام واقفا أو متئكا على شخص ثاني معك في كابينة شاحنة أو بين صناديق كونتينة تجارية ، ستتعرّض للسرقة والنهب ، وإحتمال تفقد ما تحمله من أوراق تدل على هويتك وجنسيتك .
ستتعرّض لمكايد يحيكها لك من يقول لك إني سأوصلك إلى المكان الفلاني . ستجد نفسك وحيدا لا أحد تكلّمه أو يكلمك . ستصل الأمور بك إلى درجة البكاء على ما أقدمتَ عليه ، وستندم عليه ، ستكون مع أناس غرباء عنك وعن عقليتك وحتى من لونك و ... و ... ملعون أبو الهجرة .. ولكن ماذا تقول .
تناول كأه وجرع جرعة صغيرة منه قائلا لي ... بصحتك يا عزيزي
وهنا دار لساني في حلقي دورة المنازع وقلتُ له : أي صحة أبقيتَ علي يا عزيزي وأنت منذ الكلمة الأولى تغمرني بحلة تلو الحلة سوداء قاتمة حتى يئستُ من حياتي قبل السفر وندمت على ما أقدمتُ عليه .
وهنا تغيّرت ملامحه،وعاد بريق عينيه الجميل الى طبيعته وتابع بنفث من سيكاره قائلا بأسلوب جميل وعذب وحكمة ما بعدها حكمة :
صديقي الحبيب أعطيتك صورة قاتمة وسوداء على ما ستلاقيه هناك في سفرك إلى أوروبا وهذا كله من باب فيما إذا لاقيت متاعب وحتى لو كانت عصيبة تستطيع تجاوزها وتخطّيها وتقول في قرارة نفسك هناك أعظم منها ... وإذا لم تلاقي ما يُعكّر صفو حياتك ومشوارك ... وأعتقد لن ترى ولن تلاقي هناك شيئا مما قاسيته هنا فتحمد الله على كل شيئ .
حملتني قدماي بثقل وأنا خارج قاصدا الفندق ، وأنا مشدوه من تلك الحكمة التي لا تقدّر بثمن .. والتي وهبها لي صديقي هذا ... لوجه الله .
بقلم حنا لبيب خوري
- إسحق القس افرام
- مدير الموقع
- مشاركات: 55054
- اشترك في: السبت إبريل 17, 2010 8:46 am
- مكان: السويد
Re: نصيحة لا تُقّدّر بثمن ... بقلم حنا لبيب خوري
أنه كان يقراء في عالم الغيب افكار الذين يعيشون في الغربة وهو في وطنه غريب!
رحم الله صديقك الشاعر والكاتب والاديب المبدع عبد الرحمن منيف.
مشكور جداً أستاذي الجليل حنــا على هذه النصية التي لا ولا تقدر بثمن
وفقك الله
رحم الله صديقك الشاعر والكاتب والاديب المبدع عبد الرحمن منيف.
مشكور جداً أستاذي الجليل حنــا على هذه النصية التي لا ولا تقدر بثمن
وفقك الله




- ابن السريان
- مراقب عام
- مشاركات: 1881
- اشترك في: الجمعة إبريل 16, 2010 7:22 pm
Re: نصيحة لا تُقّدّر بثمن ... بقلم حنا لبيب خوري
سلام الرب معك
الرحمة للفقيد الكاتب الكبير
عبد الرحمن منيف
أجل هذا هو الصديق الحقيقي
ينصح عند النصح
ويعطيك من خبرته عند اللزوم
ألف رحمة عليه وألف شكر لوفاء
الصديق لصديقه
بعد حرفك وقلك لا كلام يذكر
بركة الرب معك
الرحمة للفقيد الكاتب الكبير


أجل هذا هو الصديق الحقيقي
ينصح عند النصح
ويعطيك من خبرته عند اللزوم
ألف رحمة عليه وألف شكر لوفاء
الصديق لصديقه
بعد حرفك وقلك لا كلام يذكر
بركة الرب معك
بركة الرب معكم
أخوكم: ابن السريان
