عازف النـــــــــــــاي ... بقلم حنا لبيب خوري
مرسل: الأربعاء سبتمبر 18, 2013 2:46 pm
نمر أحيانا هنا في مدينتي بألمانيا ببعض الأفراد أو الفرق الصغيرة التي تعزف على شتّى أنواع الآلات الموسيقية ، وهي طريقة حضارية للتسوّل ، ترى كل عازف أو كل جماعة تضع وعاءا ليرمي فيه المارة ما تجود به أياديهم من قطع النقود تعبيرا عن إعجابهم بالعزف والإداء . وبينما أكون مارا بجانب أحدهم ممسكا بيد حفيدتي الناعمة سيلين حتى تقف وتأمل هذا المنظر وتهز رأسها وجسمها أحياناً ، لتلك الألحان ، وتشير الي بأن تقوم هي بإلقاء قطعة النقود ....
أعادتني عزيزتي إلى مرحلة طفولتي في مدينتي الرائعة القامشلي ... كان صوت الناي الذي يعزف عليه يلامس خلجات القلوب ، حتى تكاد تدمع العيون من حرقة النغم وجمال العزف ، على تلك الآلة الخشبية والتي أعتقد أنها كانت صنيعة يديه .
كان وقتها رجلا تخطّى الخمسين من عمره كفيف النظر ، نظيف الثياب لكن بالية ... يحمل صندوقا مستطيلا من الخشب المغلّف بطبقة معدنية ليقاوم الزمن ، للصندوق فتحة صغيرة تُخفي قرصا دائريا ثبُتت عليه أرقاما نافرة على شكل ساعة دائرية ، يحتفظ بقطعة معدنية على هيئة مسدس يتعشّق أحد الأرقام حين يدوّر قرص الأرقام ويدفع أحد الصبية ... الفرنك ... يومها ليفوز بكمية حسب الرقم من النوع الفاخر يومها من السكاكر .. التي ما زال طعم مذاقها في فمي إلى الآن .وهو جالس على كرسيه الحديدي الصغير ، ويديه تحرسان تلك اللعبة ... نعم لم يكن مثل هؤلاء العازفين الذين يضعون أوعية يجمعون ما يتصدق عليهم المارة ،فلم يراه أحد في وضعية التسول .
كان يحمل عصا طويلة يتحسس بها طريقه وكأنّه يرى بوضوح والأجمل من هذا .... كان يسير وهو يعزف ، اجل كان يمشي بتمهل محاذيا واجهات الدكاكين وهو يشنب آذان المارة وأصحاب تلك المحلات ، بتلك الألحان الجميلة ، والمحل الذي يعرف صاحبه يجود عليه بلحنٍ إضافي .
وللحق أقول كان عصبي المزاج ؛ وسريع الإنفعال وخصوصا عندما يحاول أحدهم أن يثير أعصابه ويصحح له على سبيل الإثارة الرقم الذي وقف عنده الدوران ، فللحال يتناول تلك العصا المعدنية ، ويضرب يمنة ويسرة وهو لا يُبصر أين يضرب .
كان عندما يصل إلى تقاطع أحد الشوارع تخفف السيارات من سرعتها ، طبعا لم تكن بالكثافة الحالية ، نعم تُخفّف سرعتها إلى أن يقطع هذا العازف الضرير الشارع . أذكر أنه ثارت أعصابه مرة من أحد المارة فبدأ بالشتائم بلهجته الأرمنية ... والناس تنظر في وجوه بعضها البعض بمعنى .. وهل مثل هذا الإنسان يزعجه أحد ؟؟؟ .
يوما إلتقيناه في طريقنا .. سألت والدي هل تعرفه يا أبتي ؟ وكان أبي من أوائل من سكن القامشلي .. أخبرني عن ما يعرفه عنه فقال لي بعد أن سأله عن حاله وسلّم عليه .... قال : كان في غابر الزمن رجلا مقتدرا وذو مال وفير ... ولكن أغوته إحداهن فأنفق ماله عليها دون حساب ، وعندما خويت جيوبه ... تركته إلى غيره ، فمن شدة غضبه وتعاسته ... أصيب بالعمى ، وأصبح يعيش كما ترى متسكعا بشوارع القامشلي ، يعزف ليخفّف من مصيبته ويحذّر الناس من الوقوع بمثل مصيبته .
نعم هذا كان عازف الناي الأعمى بالقامشلي ... خاجو الأعمي .