بدائع وطرائف جبران ... 4
مرسل: الأربعاء مايو 29, 2013 6:32 pm
الأستقلال والطرابيش
قرأتُ منذ أمد غير بعيد مقالا لأديب قام يعترض ويحتج فيه على ربّان وموظّفي باخرة فرنسية أقلّته من سورية الى مصر ، ذلك لأن هؤلاء قد أجبروه أو حاولوا أجباره على خلع طربوشه أثناء جلوسه الى مائدة الطعام ، وكُلّنا يعلم أنّ خلع القبّعات تحت سقف عادة مرعيّة عند الغربيين .
ولقد أعجبني هذا الأحتجاج لأنّه أبان لي تمسّك الشرقي برمز من رموز حياته الخاصّة .
أُعجبتُ بجرأة ذلك السوري كما أُعجبتُ مرّة بأمير هندي دعوته الى حضور رواية غنائية في مدينة ميلانو في ايطاليا فقال لي .. لو دعوتني الى زيارة جحيم دانتي لذهبتُ معك مسرورا ولكنّي لا أستطيع الجلوس في مكان يحظرون فيه علي أستبقاء عمامتي وتدخين اللفائف .
أجل يعجبني أن أرى الشرقي متمسّكا ببعض مزاعمه قابضا ولو على ظل من ظلال عاداته القوميّة .
ولكن أعجابي هذا لا ولن يمحو ما وراءه من الحقائق الخشنة المستَتبّة المتشبّثة بذاتية الشرق ومنازع الشرق ومزاعم الشرق .
لو فكّر ذلك الأديب الذي استصعب خلع طربوشه في الباخرة الأفرنجية .. بأن ذلك الطربوش الشريف قد صُنِعَ في معمل افرنجي لهان عليه خلعه في أي مكان في أيّة باخرة افرنجية .
لو فكّر أديبنا بأنّ الأستقلال الشخصي في الأمور الصغيرة كان وسيكون رهن الأستقلال الفنّي والأستقلال الصناعي ، وهما كبيران ، لخلع طربوشه ممتثلا صامتا .
لو فكّر صاحبنا بأن الأمّة المستعبدة بروحها وعقليّتها لا تستطيع أن تكون حرّة بملابسها وعاداتها .
لو فكّر بذلك لما كتب مقاله معترضا .
لو فكّر أديبنا بأنّ جدّه السوري كان يُبحر الى مصر على ظهر مركب سوري مرتديا ثوبا غزلته وحاكته وخاطته الأيدي السورية لما تردى بطلُنا الحر الاّ بالملابس المصنوعةفي بلاده ولما ركب سوى سفينة سورية ذات ربّان سوري وبحّارة سوريين .
مصاب أديبنا الشجاع أنه أعترض على النتائج ولم يحفل بالأسباب .. فتناولته الأعراض قبل أن يستميله الجوهر ، وهذا شأن أكثر الشرقيين الذين يأبون أن يكونوا شرقيين الاّ بتوافه المور وصغا ئرها مع أنّهم يفاخرون بما اقتبسوه من الغربيين مما ليس بتاغه أو صغير .
أقول لأديبنا واقول لجميع المتطربشين .. الا فاصنعوا طرابيشكم بيدكم ثمّ تخيّروا في ما تفعلونه بطرابيشكم على ظهر الباخرة او على قمّة الجبل أو في جوف الوادي .
وتعلم الســــــــــــــماء أن هذه الكلمة لم تُكتَب في الطرابيش أو في شأن خلعها أو استبقائها على الرؤوس تحت السقوف او تحت المجرّة ... تعلم الســــــماء أنَّها كُتبت ..في أمر أبعد من كل طربوش ، فوق كل راس ، فوق كل جثّة مختلجة .
والى مشاركة تالية بعونه