مار جرجس والغربة
قصة قصيرة
كابي سارة
1

همستُ في سرِّي:
شمعةُ فرحي منطفئة ومنسيّة على طاولة عاشق منذ سنين، والرَّبيع عروسُ الحياة لم تمشِ في عروقي والشِّتاء وحده نائم في عروقي.
جلستُ أرتشف فنجانَ القهوة المرّة، فانبلجت أسئلة مرّة في وجداني:
لماذا هذا القلق الدَّفين؟ ربَّما من الصُّحف المحلّيّة!

قرأت بالأمسِ في الصَّحيفة عن ذبحِ ذلك الرَّجل المجهول الَّذي لم ترَه عيني قط... لكن لماذا صورته تقفز الآن أمام عيون المخيّلة؟
قالت الصَّحيفة: (إنّ جرجيس ذُبِح في السَّاحة، فاِنسالت دماؤه كنبع صغير فشربته السَّاحة. إنّه شهيد طائفة! شهيد الأمّة...)
لماذا خامرني شعور غريب أنّني أنا المذبوح!! فتحسَّستُ عنقي، دمٌ أحمر وشّح عنقي وروحي وجال بروحي هاتف عجيب:
لماذا هذه الطَّواحين البشريّة وهذه الأحقاد باسم الأمّة، .. الشَّهادة، .. الطَّائفيّة؟

نذبحُ بعضنا بعضاً في بلدِ السَّلام والحرِّية ... ربّما لا نعرف كيف نعيش في حرِّية وسلام لأنّنا من بلادِ القمع والقهر والعبوديّة...
أسئلةٌ مرّة عكَّرت سماء روحي بغيوم الغيظِ الأسود...
2
جلستُ وحيداً، أرسمُ أحلامَ شعبنا المغترب في بقاعِ الأرضِ، أرسمُ على لوحات الفراغِ صوراً ملوَّنة لدول رائعة مثل "السُّويد"، الصُّور يمحوها الواقع الَّذي نعيشه ... فركبني المزيد من الكدر والقلق، ثمَّ ضحكتُ في سرِّي ببلاهة،
لأنّه في ذلك الحين باغتَتْ مخيَّلتي صور الواقع وصور النَّاس المغتربين والمجلَّات، والرَّجل الذي ذُبِحَ بالأمسِ
حملقتُ في الصُّور باستغراب كمن يحملق بصور الحرب على شاشة التَّلفزيون.
هتفتُ بحدّة في نفسي:
مَنْ ينقذُ شعباً تفترسه التَّناقضات والانقسامات والعشائريّة والعائليّة؟
أيُّها الوطن الغائر فوق جدران التَّاريخ، أبناؤكَ كالخراف شرّدتها ذئاب الجِّبال، مرَّت الصُّور والوجوه والرَّجل المذبوح في روحي كفيلم أسطوري...
3

أحياناً أرسم عذاباتي فوقَ النّهار، البحيرات، وفوق أوراقِ الأشجار. وأخاطِبُكِ "أمِّي": أعذريني لأنَّي لم أستطِعْ أن أبقى ولدكِ كزنبقة في ساحةِ الدَّار.ولا عصفور سجين في أقفاصهم، كنتُ شوقاً إلى الحرِّيةّ واللَّون والأشجار المملوءة بالثِّمار.
ولكن اليوم، الغربة سيوفها تجرحني ومن فرطِ الغيظِ والحزنِ نسأل:
مَن يزرعُ الشَّوكِ في الدُّروب؟ من يقيم ألف حرب كلّ يوم؟ من أفلتَ هذا الوحش وسلَّطه على المدينة المزدهرة بالأنهار والينابيع والطُّيورِ والبترول؟
لماذا أسطورة "مار جرجس" تأتيني في الحلم واليقظة؟
رغم أنّنا نعرف أن أحصنتنا وسيوفنا من خشب وأحصنتنا تكبو ثم تكبو ثمَّ تنهضُ لتكبو! ونقول: ولو تفّاحة تكفي...!
في هذه الأيّام وفي ساعات التأمُّل والحلم يأتي "مار جرجس" نتناقش الأفكار معاً، نبني المدن الرَّائعة على الورق وبعد لحظات يهدّها، في النّهاية يرتدي معطفه الأوربي ويمتطي حصانه ويغيب مرَّة ثانية في ظلمة الانقسامات، يطلقُ ضحكة ساخرة ويقول:
حتَّى السُّويد لم تعجبكم! أي المدن تريدون؟
مصيركم الغربة والضّياع...!
تزحف عقارب الكآبة نحوي وتحاصرني، أهرب، أصرخُ في وجه الحروب. أليسَ هناك من حلول؟ إنتصبَتْ "بيروت" الآن أمامي،
روحي تنهار وتجول فيها النَّار ويرتديها الدُّخان وأحذية الجُّنود القذرة تلوِّث الأخضر والموتُ يحصدُ الأطفال والرّجال والأشجار.
رأيتُ الآن العراق، لبنان، اليمن، سورية ...الأوطان الَّتي تأكلها النِّيران، فجرفني طوفان الحزن إلى مدنٍ مجهولة المعالم، يجول فيها الموت وتهدِّمها الطَّائرات والقنابل وكلّ أسلحة الحقد والشَّرِّ والجُّنون...
أمطرّت أحزان الأرض في روحي، فبكيتُ ودفنتُ وجهي في التُّراب وبلهجة عابسة إنبلجَ سؤال:
من يخلّص الإنسان من عذابات الأشرار والجّنود والدّيكتاتور والحقد؟
وعلى حين غرّة هاجسٌ همسَ في سرّي: إحمد الرَّب أنّكَ الآن في بلدِ السَّلام "السُويد"، قلتُ بصوتٍ عالٍ وأنا أنهض من ذهولي: أحمدُ الله ألف مرّة.






كابي سارة :
ستوكهولم