لم تكن ( دينا ) كباقي فتيات كوكبنا ، ولم تكن من جنسهم ..
لم تكن تعرف مثلهم أساليب الحب والعشق والغرام ..ولكنها
كانت محبوبة ، فبمجرَّد الجلوس معها خصوصاً على العشب
الأخضر ، وهي من حولك تتقافز ، وتتدلّع ، وتسرح وتمرح
تشدَّك إليها وتجعلك تتعلَّق بها وتحبَّها ...
دينا هذه كانت صغيرة جدّاً عندما أحبَّها إبننا وهو لايزال في السادسة
من عمره وأرادها ، فلبّينا له طلبه ، وأتينا بها البيت ، لتصبح
واحدة من أفراد العائلة ..
قد تتساءلون عن دينا هذه ، ومن تكون ؟ وأنا أجيبكم :
دينا كانت أرنبة صغيرة جميلة ، بيضاء اللون ، كحيلة العينين
مدوَّرة الفم ، بهيّة الطلعة ، خفيفة الظل ،أليفة المعشر
تدخل القلب مباشرة دون إذن دخول ..
في حديقة المنزل ، كان لها مسكناً خاصّاً ، هناك كانت تعيش
سعيدة مطمئنّة على حياتها ومستقبلها ، يقدَّم إليها الأكل والماء
بإنتظام ، ناهيك عن أقراص الحلوى الخاصة ، التي كانت
تستلذ بها مرّة واحدة في الأسبوع ، وكان كلَّ يوم سبت.
أجل نشأت وترعرعت دينا على الحب والدلال والعناية الفائقة .
توالت الأيام وكبرت دينا ولم تعد تلكَ المخلوقة الصغيرة التي
كانت ترتجف خوفاً عندما أتينا بها لأول مرّة إلى البيت ..
أمّا اليوم وبعد مرور حوالي السنتين ، أصبحت تعرفنا جميعاً
وعندما تناديها بإسمها ، تأتي مسرعة ، فتتقافز وتتدلَّع أمامكَ
لتزيدكَ حبّاً وولعاً بها ..
وفي إحدى أيام الصيف المشمسة ، حيثُ كانت زوجتي جالسة
في حديقة المنزل ، بيدها جريدة تتصفَّحها ، وكانَ إبني الصغير ودينا
يستمتعان بجمال الطقس ، يلعبان ويمرحان ويتراكضان ويتقافزان
على البساط الأخضر الناعم ، لايعكِّر صفو مزاجهما وبهجتهما شيء...
وفجأةً صرخت زوجتي بأعلى صوتها وهي تردد عبارات :
أكلها الكلب ...أكلها الكلب ......!!
كنتُ في داخل المنزل عندما سمعت الصراخ ..فهرعتُ
مسرعاً لأستطلع الخبر ..
(زعلتُ كثيراً لأنني تمنيتُ في تلكَ اللحظة وجود كاميرا تصِّور المشهد ).
لجيراننا السويديّين ثلاثة كلاب صيد ، بيننا وبينهم حاجز خشبي على
أرتفاع المتر تقريباً ، أحّد الكلاب الثلاثة يظهر أنه لمح دينا أو أحسَّ
بوجودها ، فقفز فوق السياج ، وراحَ يلاحقها ليصطادها ....
ياله من مشهد مُثير ومضحك ومرعب بنفس الوقت .. فعندما خرجتُ
ورأيت الكلب يلاحق دينا ، بدأتُ أنا ألآحقه وأصرخ عليه وأهدده
وأنعتهُ بكلمات بإعتقادي إنني أهينهُ بها ، فمثلاً كنتُ أقول له :
توقّف ياكلب أبن الكلب ...إذا أكلتَ دينا ستلقى جزاءُكَ منّي ..!
بهذه الكلمات كنتُ أجري خلفه وأصرخ عليه .. وزوجتي من
خلفي تجري ، وتقذف به بما أمسكت يداها ، والمضحك في الأمر
أن أغلب القذائف كانت من نصيبي وليس من نصيب الكلب ..
كان من خلفها يجري وينهج بالبكاء على حبيبته الغالية جدّاً
على قلبه ، إبننا الصغير ، حيثُ يتهددها الخطر .. ياله من مشهدٍ
كوميديٍّ درامي مضحك وحزين بآنٍ واحد ..!
لاأبالغ عندما أقول إنها المرّة الأولى التي أشهد بها مثل هذا
الموقف ، وأستطيع أن أسمّيه موقف (الصراع من أجل البقاء )
ياالله كم كانت دينا في تلك اللحظات جبّارة وذكيّة وفطِنة ..
كانت تقفز أمام الكلب قفزات سريعة جداً ، وعندما كانت تشعر
بأنها ستقع بين مخالبه لامحالة ، وهو على وشك الإمساك
بها ، لم تكن تتباطأ ، بل كانت تزيد من سرعتها ، ثمَّ تتوقف فجأة
في مكانها ..أمّا الكلب فربما لم يحسب لتلك الوقفة حساب ، فكانَ يُكمل
بأقصى سرعته ، ليصطدم بالحاجز الخشبي أو بجزع شجرة أو
بحائط المنزل الخارجي .. وهكذا .. قرابة العشرة دقائق ونحنُ على
هذا الحال ، الصراخ مستمر ، والجري على قدمٍ وساق ....
دينا تعدو ، والكلب يعدو خلفها ، وأنا أعدو خلف الكلب ، وزوجتي
تعدو خلفي ، ومن خلفها يعدو إبننا الصغير ، والمشاهد المثيرة متتالية..
أخيراً وعلى صراخنا خرج الجيران المجاورين لنا ليستدركوا الأمر
وسبحان الله ..صرخة واحدة من جارتنا صاحبة الكلب
جعلته يجلس مكانه دون حِراك ، متدلِّي اللسان ، يلهث
لهُاثاً مسموعاً ...
وبهذا أستطاعت دينا أن تنجو من براثن الكلب الخائب ، وتعود الفرحة
إلى قلوبنا جميعاً ، خصوصاً إبننا الصغير ..
بعد مرور عدة أسابيع على هذا الحدث ، صحونا في إحدى الصباحات
الصيفيّة الجميلة لنُصدمْ بغياب دينا ...كانَ الباب مفتوحاً على مصراعيه ..
ولم تكن دينا في الداخل ..
ماالذي حصل لها.....لاندري؟
أخُطفتْ ؟.. أم ُقتلتْ ؟.. أم ُشرِّدتْ؟.. أيضاً لاندري ..؟!
بكاها إبننا الصغير ... فبكينا لبكائه ..
أنتظرنا طويلاً على أمل أن تعود ... لكنها لن تعود أبداً ..
رحلت .. ولكن ذكراها لازالت باقية .
فريد توما مراد
ستوكهولم - السويد