( يجب عليكَ أن تنام يابُني ..! لقد تأخر الوقت .. سوفَ
نستيقظ باكراً للذهاب إلى الكنيسة ) .
هذه الكلمات كانت لاتزال تطنُّ في مسمعهِ بعد مرور
حوالي الخمسون عاماً عليها ولكن لن يستطيع الزمن أن يمحوها
لطالما سمعها مراراً وهو صغير من والدته خصوصاً في ليالي الأعياد.
ففي هذه الليلة بالذَّات كانَ يُطيبُ له السهر ويتمنى أن يبقى صاحياً
حتى الصباح ، لا ليتفرَّج على البرامج الجميلة والمسلية في
التلفزيون حيثُ تُبثْ عادةً في الأيام التي تسبق العيد
ولا لأنه كانَ جالساً على الكومبيوتر الجديد يتسلى
بالألعاب المتنوعة داخل شبكة الأنترنت ، ولا كانَ
فرحاً بالموبايل( الآيفون 5 ) الذي هو آخر موديل قد نزلَ إلى السوق
لا .. فبالأساس وفي تلك الحقبة من الزمن ، أي في
بداية الستينيات من القرن المنصرم لم يكن لديهم تلفزيون
ولا كانَ الكومبيوتر قد ظهر ولا الموبايل ولا الإنترنيت
ولا أي شيء من التي يتمتع بها الطفل اليوم . و كانَ لا يُريد
أن ينام ، لا لكي يتثنى له اللعب بالهدايا التي ُقدمتْ إليه في
تلكَ الليلة كما تُقدَّم للأطفال في مثل هذه الأيام من ليالي
عيد الميلاد ، لأنه فعلاً لم يتلقَّى أيُ هدية من أحّدٍ ما تلكَ الليلة
وربما لم تكن هذه العادة جارية في تلكَ الأيام ، أو بالأحرى لأنَّ
أغلب ألعابهم كانوا يصنعوها بأيديهم ويبتكروها من محيطهم .
ولم يكن يرغب النوم تلكَ الليلة لأنه كانَ سعيداً بالسرير الكهربائي
الجديد ، حيثُ من شدّة فرحته به بدأ يقفز ويتنطنط عليه فطارَ
النوم من عينيه .. لا أبداً لأنه لغاية ذلكَ الوقت كانَ يفترش
الأرض وينام ، ولم يكن لديه سرير ، فعلى مساحة أرض
تلكَ الغرفة الترابية المتواضعة جدَّاً كانت تمتدّ ( الفُرشْ )
وكانَ الكل ينام جنباً إلى جنب ، وهكذا كان حال الأغلبية الساحقة
في تلكَ البلدة البسيطة ، بإستثناء البعض وكانوا فئة قليلة جدّاً .
كل هذه الأسباب التي ذكرتها لم يكن لها دخلاً في أن يجعل السهر يحلو
لذاكَ الطفل السعيد تلكَ الليلة ( ليلة عيد الميلاد ) لأنّها بالأساس لم
تكن موجودة حتى في ذاكرة خياله ، ولم يكن يحلم بها لا تلك
اللحظة ولا في المستقبل ، ولم يكن يتصور سيأتي يوماً عندما
تتوالى السنين ، ليجلس وحيداً في غرفته ويكتب عن تلكَ الذكريات .
أما السبب الرئيسي الذي كان قد أيقظ ذاكَ العقل الطفولي لغاية
تلكَ الساعة المتأخرة من الليل وجعله يُصارع وُيقاوم النعاس
ويُبعد النوم عن عينيه ، ويتأمل ويشبِّع نظره من تلكَ الرؤية
لساعاتٍ وساعات والفرحة تغمر قلبه ، ولا يُريد أن يُغمض
تلكَ العينين اللتين فعلاً كان قد دبَّ بهما النعاس ، وبدا عليهما
التعب والإرهاق ، ولكنه كان يقاوم ويتحمّل حتى لا تغيب
عنهما تلك الرؤية الجميلة ، أو ربما خوفاً من إختفائها كليَّاً
إذا ما أغمضهم واستسلم للنوم . بحيث أنه كانَ يتمنى أن يحل
الصباح وموعد الذهاب إلى الكنيسة قبل أن ينتصر عليهما النوم !
ماهي تلكَ الأشياء التي أفرحتهُ وسهَّرتهُ تلكَ الليلة ؟...
إنها بسيطة جداً ، ولو عرضتها على أي طفلٍ بعمره هذا الوقت
سوف يكون الأمر طبيعيّاً جداً بالنسبة إليه ، وربما ألقى عليها
نظرة خاطفة دون مبالاة أو أي أهتمام أو إعجاب ، والسبب
يعود إلى الحياة التي يعيشها الطفل اليوم ، والحياة التي كانَ
يعيشها الطفل ذاكَ الزمان ، وكيف كانت الإمكانات المهيئة
لهُ وقتذاك ، وكيف هي اليوم ؟ لهذا لا أُبالغ أبداً عندما أقول :
إن فرحة الطفل بثياب العيد الجديدة هي التي أبقتهُ يقيظاً لغاية
تلكَ الساعة المتأخرة من الليل.. ربما لو حكيتُ لإبني هذه الحكاية
اليوم لضحكَ وسخر مني ، ومعه حق في ذلك ،لأنها حكاية غير
منطقيّة في هذا العصر الذي يعيشه أولادنا ، ولو قلتُ لهُ بأنّ
ذاكَ الطفل السعيد في تلكَ الليلة كانَ يُبسط ثيابهُ الجديدة بجانبه
وينام ، لضحِكَ إبني أكثر ، ولو قلتُ له بأن ذاكَ الطفل المغمور
بالفرحة في تلكَ الليلة كان عندما يستنشق رائحة الحذاء الجديد
الموضوع جانبه حيثُ ينام ، كان ينتعش من تلكَ الرائحة المنبعثة
منه والتي كانت لا تتكر كثيراً سوى في ليالي الأعياد ، ولم يكن
يعلم بأنّ تلكَ الرائحة هي رائحة ( الجلد ) والمواد التي توضع
عليه قبل أستعماله ، ظنّاً منه أنها مخصصة فقط للأعياد .
فلو سمعَ إبنيّ مني هذا الكلام أكيد سينعتني بالمبالغة
والمغالاة .. ولكن ما أقوله عن ذاكَ الطفل ليسَ إلاّ الحقيقة .
لنعود مرة أخرى إليه بعدما أستطاع النوم في النهاية
أن يتغلب عليه ليستسلم له وينام بهدوء وفرح وطمأنينة
وفي مخيّلته وقبل أن يُغمض عينيه لاتزال آخر صورة
رآها هي صورة ثياب العيد الجديدة ..!
ها قد بزغ الفجر ، ودقَّ ناقوس الكنيسة مُعلناً بدأ الصلاة
فأيقظته والدته ليذهب مع جدّه وجدته إلى الكنيسة ثم تلحق
هي بهم متأخراً بعد أن ترتب البيت وتقوم ببعض الأمور
المنزلية ، فمن المفروض أن يذهب هو قبلها ، لأنه وبرغم
عمره المبكر ، كان شمّاساً ، وكان يجب عليه أن يذهب
مع بداية الصلاة ، ليصعد إلى الهيكل كبقية الشمامسة .
لم يترد ولم يتململ أبداً عندما أيقظته والدته ، بل على
العكس أزاح اللحاف من فوقه وهبَّ واقفاً وكأنه كان
مستعداً لتلكَ اللحظة برغم أنه لم ينم إلاّ بضعة ساعات
وهي غير كافية لطفلٍ في مثل سنه ، نظرَ نظرةً سريعة
نحو الأرض ليتأكد من بقاء كلَ الأشياء على حالها مثلما
تركها قبل أن ينام .. فرآها كما كانت ، فإطمأنَّ وأحسّ
بنشوة سعيدة تسري في جسمه الصغير ، غسلَ وجهه
وبللَ شعره بالماء ، ثم بدأ يرتدي ثيابه الجديدة التي
لطالما حلم بهم وهو نائماً ، سرّحتْ له والدته شعره وقبَّلته
لينطلق مع جدّه وجدته ، ماسكاً بيده الكيس الذي يحوي بداخله بدلة
الشمَّاسية والتي كانت قد غسلتها وكوتها له والدته ليلة البارحة
ووضعتها بجانبه لكي لا ينساها ..
في الطريق إلى الكنيسة كانَ لازال الظلام مخيّماً ، والرؤية
لم تكن واضحة جيداً ، لم تكن الظلمة تخيفهُ لأنه بأمان مع من
يرافقهم ، ولكن ما كانَ يُخيفهُ ويقلقه في تلكَ اللحظة هو إنزلاق
قدمه في إحدى الحفر المملؤة بالماء والطين فتحل الكارثة بالحذاء
الجديد ، وربما بالبنطلون أيضاً ، أو ربما يصطدم بحجرة مُلقاة
على الطريق فتسبب ضرراً في مقدمة حذائه ، أو قد يسقط على الأرض
فتكون المصيبة أكبر ، لهذا كان يسير بحذرٍ شديد ، وبدقة عالية
محاولاً قدر المستطاع إنقاذ الحذاء والثياب الجديدة لغاية وصوله
إلى الكنيسة .. وكم كانت فرحته كبيرة عندما يُصبح بحوش الكنيسة
وينظر للمرة الأخيرة إلى حذائه فيلقاهُ نظيفاً لامعاً ، ليدخل بعدها
الكنيسة ويبدأ السير على نغمات السمفونيّة المحببة لديه المنبعثة
من إحتكاكات أسفل حذائه الجديد بالأرض الأسمنتيّة الناعمة
وكم كانت تلك الزقزقات المدويّة الصادرة عنه ، تبعث في قلبه
الطفولي الغبطة والسعادة ، ولربما كانت لديه أجمل من زقزقات
العصافير في صباحاتٍ ربيعيّة ،هكذا كان يسمعها بأذنيه ، لهذا
أحياناً كثيرة كانَ يتقّصدْ أن يُطيل المسافة من مدخل باب الكنيسة
ولغاية الهيكل فيسير ببطىءٍ شديد ليُطيل العرض أكثر ، أو ربما
ليُلفت أنتباه الآخرين لهذا الحذاء الجديد وثياب العيد الجديدة ...
واليوم قد أصبح كهلاً .. لكنه كلما أتى العيد .. تعود به الذكريات
إلى بساطة تلكَ الأيام ... إلى الفرحة بثياب العيد الجديدة ..
إلى والدته .. إلى جدّه وجدّته .. إلى عفويّة الناس الطيبين
إلى تلكَ الأزقّة والحارات.. إلى بيوت الأهل والمقربين التي كان يزورها
يوم العيد ليجمع ( الفرنكات ) والسكاكر المتنوِّعة ، وكان من أحّد أنواعها
( القلو قلو) بلونه الأبيض وخطوته الحمراء ، وأحياناً كانت تصل حصيلة
ما جمعه إلى أكثر من ستّة أو سبعة فرنكات ، وكيس من السكاكر، فكان يشعر
وكأنّه أصبح من أغنى الأغنياء ، وأنّ مجهوده ذاكَ اليوم أتى بنتيجة جيّدة ولم
يذهب سُدى. لهذا كان يتمنى أن لا ينتهي العيد ، وتكون كل أيامه أعياد !
...نعم .... يتذكّر....... ويشتاق....... ويحن ......
فتنحدر دمعة ساخنة من عينه .. فيشهق شهقةً عميقة
ليرتفع لها صدره ثمَّ يهبط ويستقر من جديد .
فريد توما مراد
السويد – ستوكهولم
22- 12 – 2012 م